د.اكرم شمص
مقدمة
في الذكرى السنوية الأولى للحرب الصهيونية على لبنان، أطلق دولة الرئيس نبيه برّي موقفًا حادًّا ردًا على تصريح الموفد الأميركي توم برّاك، الذي قال صراحة إنّ تسليح الجيش اللبناني ليس لمواجهة إسرائيل، بل لمواجهة “حزب الله” وحتى “الشعب” إذا لزم الأمر. هذا الكلام فجّر نقاشًا وطنيًا حول حقيقة النوايا الأميركية، ودور الجيش، وعلاقة المقاومة بالدولة، ومعادلة الأمن والسيادة في لبنان.
أولًا: خلفية تاريخية للصراع على السلاح والسيادة
منذ عقود، يتأرجح لبنان بين معادلتين متناقضتين:
- معادلة الجيش وحده: التي ترى أن السلاح يجب أن يكون محصورًا بالدولة ومؤسساتها الشرعية.
- معادلة الجيش والشعب والمقاومة: التي تضع المقاومة شريكًا أساسيًا في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي والاعتداءات الخارجية، خصوصًا بعد انتصار 2006.
الولايات المتحدة ودول غربية لطالما حاولت دفع لبنان نحو المعادلة الأولى خوفا على الكيان الغاصب، بينما تؤكّد قوى سياسية لبنانية—وفي طليعتها الرئيس برّي—أنّ المعادلة الثانية هي التي حمت لبنان وردعت العدو الصهيوني، وأنّ أي محاولة لفصل الجيش عن المقاومة إنما تخدم الكيان الغاصب قبل أي طرف آخر.
ثانيًا: قراءة في تصريح توم برّاك
كلام برّاك بأنّ تسليح الجيش ليس لمواجهة العدو الاسرائيلي، بل لضبط “حزب الله”، يطرح دلالات خطيرة:
- إعادة تعريف دور الجيش: تحويله من جيش وطني إلى أداة لضبط الداخل وتصفية الحسابات مع المقاومة.
- تبرير منع السلاح النوعي: إذ طالما ادّعت واشنطن أنها تدعم الجيش، لكنها في الواقع تمنع عنه أي منظومات ردع استراتيجية قد تغيّر معادلة القوة مع هذا العدو الغاصب.
- زرع الانقسام الداخلي: بتصوير الجيش والمقاومة كخصمين، ما يُضعف الوحدة الوطنية ويصبّ في مصلحة العدو.
ثالثًا: موقف الرئيس برّي ورسائله المتعددة
بيان الرئيس برّي جاء ردًّا على هذا المنطق الأميركي من ثلاث زوايا أساسية:
- رفض التصنيف الأميركي: الرئيس بري أكد أنّ الجيش اللبناني لن يكون أبدًا “حرس حدود للشر مطلق اسرائيل”، وأن سلاحه مقدّس للدفاع عن لبنان وليس للفتنة الداخلية.
- الدعوة لموقف رسمي موحّد: إذ طالب الدولة اللبنانية بموقف واضح يرفض أي توصيف خارجي ينتقص من سيادة لبنان أو يفرض أدوارًا مشبوهة على مؤسساته العسكرية.
- تحميل الحكومة مسؤولياتها: خصوصًا لجهة الإعمار وتعويض المتضرّرين، لأنّ السيادة ليست فقط عسكرية بل أيضًا اجتماعية وإنسانية، وإهمال هذا الملف يفتح الباب أمام الاستثمار السياسي في آلام الناس.
رابعًا: أبعاد الموقف الأميركي ومصالحه الخفية
السياسة الأميركية في لبنان ليست معزولة عن سياق إقليمي أوسع:
- حماية الكيان الغاصب: منع أي قوة عسكرية عربية من امتلاك توازن ردع فعلي مع الجيش الإسرائيلي.
- تقييد المقاومة: عبر العقوبات والضغط الاقتصادي والسياسي، ومحاولة عزلها داخليًا.
- إبقاء لبنان ضعيفًا: كي يبقى بحاجة دائمًا إلى الوساطات الدولية والمساعدات المشروطة.
وهنا يظهر التناقض: واشنطن تدّعي دعم “الدولة”، لكنها في الوقت نفسه تمنع هذه الدولة من امتلاك مقومات قوة حقيقية تردع العدو الغاصب أو تحمي السيادة
خامسًا: السيادة بين معادلتين
اليوم يقف لبنان أمام خيارين:
- الخضوع للشروط الأميركية: جيش محدود التسليح، مقاومة محاصرة، وسيادة منقوصة.
- المعادلة الوطنية الجامعة: جيش قوي، مقاومة ردع، ووحدة داخلية تجعل القرار اللبناني مستقلًا بعيدًا عن الإملاءات الخارجية.
الرئيس برّي بدعوته لموقف رسمي موحّد إنما يضع الجميع أمام مسؤولياتهم: إمّا حماية السيادة بمفهومها الكامل، أو الارتهان لشروط الخارج الذي يريد جيشًا بلا مقاومة ودولة بلا قرار حرّ.
خاتمة: ما بين برّي وبرّاك… السيادة ليست وجهة نظر
في النهاية، يتبيّن أنّ الخلاف ليس حول الجيش كمؤسسة، بل حول دوره ووظيفته وحدود قراره السيادي. كلام برّاك يفضح حقيقة أنّ الدعم الأميركي مشروط سياسيًا، وأنّ المطلوب جيش بلا مقاومة، ودولة بلا قرار، وحدود بلا حماية.
أما موقف الرئيس برّي، فهو يعيد التأكيد أنّ السيادة لا تتجزّأ: لا يمكن حماية الأرض من دون مقاومة، ولا يمكن بناء دولة قوية بسلاح محدود الإرادة والقرار. والسيادة، كما يراها برّي، ليست منحة من الخارج، بل قرار وطني جامع، يرفض أن يكون الجيش أداةً ضد شعبه أو حارسًا لحدود العدو.